من أبطال المقاومة الأمازيغية: بطليموس
تمهيــــد: كل من يتعرض لدراسة المغرب الأمازيغي إبان الاحتلال الروماني لابد أن يذكر بعض الشخصيات المقاومة التي واجهت بطش الرومان بالتحدي والإصرار والعمل وبناء المغرب حضاريا، وهذه الشخصيات هي: يوبا الثاني وابنه بطليموس والوزير القائد أيديمون. وإذا كان الملك الأمازيغي المغربي يوبا الثاني قد انتهج المقاربة الثقافية في التعامل مع الكثير من القضايا التي كانت تتعلق بالوجود الروماني وإشكالية الهوية وموقف الدولة الموريطانية الطنجية من التدخلات الرومانية وتبعية الدولة الأمازيغية لها، فإن ابنه بطليموس والقائد أيديمون اختارا المقاربة العسكرية لتوحيد الأمازيغيين ومجابهة القوات الرومانية المعتدية والتصدي لبطش الحاكم الروماني المتغطرس كاليگولا الذي غدر ببطليموس ثأرا وانتقاما من غروره وعجرفته الملكية، والحد من طموحاته التوسعية لجمع شمل ساكنة تامازغا ، ونظرا لإعداده لجيش أمازيغي قوي وقف سدا منيعا ضد الفيالق اللاتينية وبعض معاونيها الخونة الذين كانوا ينساقون وراء حكومة روما رغبا ورهبا. إذاً، من هو بطليموس؟ وماهي التطورات التي عرفتها مقاومته في بلاد تامازغا؟ وماهي أهم الإنجازات التي قام بها بطليموس؟ وماهي نتائج ثورته العسكرية؟ هذه هي الأسئلة التي سوف نحاول الإجابة عنها في موضوعنا التاريخي هذا.
1- مــــن هو بطليمــــوس؟
ولد بطليموس الموريطاني المغربي أو بطولاميوس أو بطوليمايوس أو بطوليمي في السنة الأولى قبل الميلاد في وسط أرستقراطي يشهد له بالمجد والشرف والسيادة والسؤدد والثقافة وكثرة الاطلاع المعرفي والعلمي والفني والأدبي. ونشأ كذلك في أحضان أسرة ملكية رفيعة المكانة ذائعة الصيت مشهورة بعلمها وجاهها ووفائها للإمبراطورية الرومانية، وفي نفس الوقت وفية لشعبها الحر المناضل في سبيل تحرير البلاد من قبضة الرومان الأعداء. إن بطليموس كما هو معروف هو ابن العاهل الموري أغسطس المعروف بيوبا الثاني ملك موريتانيا الطنجية وملكة سيليني بنت كليوباترة السابعة ومارك أنطوان. وبذلك ، تجري في عروق بطليموس دماء أمازيغية إذا رجعنا بجذور السلالة الملكية إلى الجد الأكبر يوبا الأول ملك نوميديا الذي مات في مبارزة الرومان ، ودماء رومانية قيصرية إذا نظرنا إلى جهة الأم التي هي سليلة القياصرة وأباطرة الروم. ويعني هذا أن بطليموس تختلط فيه دماء الولاء والتحدي، كما تختلط فيه دماء الرضوخ والتحرر. بل هناك من يثبت أن بطليموس ورث جذورا متنوعة: أمازيغية ورومانية ويونانية ومصرية. كما كانت له صلات دموية وعائلية مع أباطرة الروم وخاصة كلود ونيرون وكاليگولا.
وقد تلقى بطليموس وأخته دروسييا تربية سلوكية رومانية وتنشئة شعبية أمازيغية. ولما بلغ بطليموس 19 سنة من عمره، لقبه أبوه يوبا الثاني بالعاهل أو الملك أو السلطان الشريك أو سماه بولي العهد إعدادا له لتولية الحكم من بعده. وبعد مرور أربع سنوات، تولى بطليموس عرش أبيه يوبا الثاني إثر وفاته في24 م. وتزوج بطليموس جونيا أورانيا من سلالة سورية إغريقية، وأنجب منها طفلة سماها دروسيا على غرار اسم أخته، والتي بدورها ستتزوج سنة52 م من أنطوان فيليكس والي الحكومة الرومانية بمدينة جودي. وقد حكم بطليموس موريطانيا الطنجية مابين33 ميلادية و40 ميلادية. وينبغي علينا ألا نخلط داخل أذهاننا بين بطليموس العالم اليوناني الذي اشتهر في علم الفلك والجغرافيا، وبطليموس الملك الموريطاني المغربي الأمازيغي الذي استهدف بناء مملكته حضاريا وتوحيد القبائل البربرية تحت سلطته السياسية.
وقد ۥخصص للملك بطليموس الموريطاني لوحة تمثالية منحوتة تمثل وجهه المشرق الوسيم على غرار لوحة وجه أبيه يوبا الثاني تقديرا له وتبجيلا ، وتوجد هذه اللوحة في متحف اللوڤر الباريسي بفرنسا.
2- إنجــــازات بطليموس:
انتهج بطليموس سياسة أبيه في بناء حضارة موريتانيا الطنجية مقتبسا مقومات الحضارة الرومانية والقرطاجنية واليونانية في تشكيل معالم الدولة الأمازيغية الجديدة: إداريا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا. واهتم كثيرا بتمدين المملكة وتعميرها وتقويتها عسكريا؛ وقد جعل أيديمون وهو أحد عتقائه قائدا عسكريا فوزيرا للدولة نظرا لوفائه وإخلاصه في تدبير دواليب الحكم وتسيير مرافق الإدارة، وكذلك لاتصافه بالشجاعة في قيادة المقاومة وتنظيم القوات الأمازيغية وتوجيهها أحسن توجيه في عملية التحصين وتوحيد القبائل الأمازيغية واستنفار قواتها البشرية والمادية. ومن جهة أخرى، فقد اهتم بطليموس شأن أبيه بالصناعة والتجارة والفلاحة والصيد البحري ونشر الثقافة بين الناس، ونتج عن هذا أن تحقق في عهده الازدهار الاقتصادي والانتعاش العمراني والنهضة الفكرية وتدفق الأموال؛ وهذا ماجعل الإمبراطور كاليگولا يطمع في خيرات المغرب وثرواته الغنية وينتظر الفرصة السانحة للسيطرة على حكم بطليموس لنهب ممتلكاته وأموال مملكته.
وعلى الرغم من بعض الثورات التي قام بها الموريون في عهده وفي عهد أبيه يوبا الثاني، فإن فترة بطليموس بعد سنة 24م وبعد قضاء الرومان على ثورة تاكفاريناس عرفت بالهدوء والرخاء الاقتصادي. يقول الباحث المغربي محمد بوكبوط في هذا الصدد:" بعد ذلك التزمت المصادر الصمت حيال أوضاع موريطانية، بحيث تبدو هادئة وملكها بطليموس ينعم بثمرات ذلك الاستقرار إلى غاية سنة 40 م، التي شهدت اغتيال الملك الأمازيغي من طرف القيصر كايوس كاليگولا، واضعا بذلك حدا للاستقلال الشكلي لموريطانيا التي قسمت إلى ولايتين رومانيتين: موريطانيا القيصرية وموريطانيا الطنجية [1]. ومن ثم، نسجل أن بطليموس كان ملكا محنكا في المجال السياسي، وذا تجربة كبيرة في مجال التدبير الاقتصادي والإداري وقيادة القوات العسكرية، والدليل على ذلك هو النمو الاقتصادي الذي حققه ميدانيا بفضل الاستقرار الاجتماعي، ناهيك عن القضاء النهائي على ثورة تاكفاريناس، واكتساب رضى الحكومة الرومانية، بله عن الظفر بحسن ولائها، والفوز بعطف القياصرة على سياسته ، فضلا عن حصوله على تقديرات مشجعة وتنويهات متميزة من مجلس الشيوخ اللاتيني.
3- تطـــور مقاومة بطليموس:
بعد وفاة يوبا الثاني سنة 23م ، خلفه ابنه بطليموس مباشرة، فسن سياسة التوحيد والاتساع وتطويق المقاومين الأمازيغ بعد مسالمتهم والحوار معهم. ويعني هذا أن بطليموس لما تفرد بالحكم في ظل الحماية الرومانية، قام بتوحيد مملكة موريطانيا الطنجية وجمع كل القبائل الأمازيغية الأخرى تحت سيادته وسلطة حكمه، وبدأ بعد ذلك في تقوية جيشه من أجل التوسع والامتداد لتوحيد الممالك الأمازيغية المجاورة الأخرى في إطار مملكة تامازغا القوية. لكن الحكومة الرومانية في عهد كاليگولا(25 قبل الميلاد- 33 بعد الميلاد) كانت تترقب تطلعاته التوسعية بحذر شديد، وترصد طموحاته في تمديد سلطانه على حساب جيرانه الأمازيغيين بنوع من الترقب والتوجس.
وفي نفس الوقت، انطلقت مقاومة شرسة في نوميديا قادها المقاوم الشاب تاكفاريناس لمدة سبع سنوات بعد أن فر من الجيش الروماني في سنة17 م، فبسط نفوذه على قبيلة مازولاميس ( منطقة مسيلة) التي كانت مواطنها بين قفصة والأوراس أي في نوميديا الشرقية. وقد كبد الجيش الروماني خسائر فادحة واستطاع أن يهدده داخل خط الليمس، إلا أن الحاكم الروماني بالشمال الإفريقي فوريوس هزمه. بيد أن تاكفاريناس عاد إلى ساحة القتال مرات عدة ، وكرر غاراته كرات متتالية لعدة سنوات إلا أن قتل بالجزائر بسبب خيانة أبناء جلدته.
وما يلاحظ على بطليموس في هذه الفترة أنه استطاع أن يساعد القوات الرومانية، وأن يحاصر المناضل تاكفاريناس، وأن يحد من مقاومته، وأن يطوق تحركاته العسكرية. وبالتالي، أن يقضي على كل الثورات الأمازيغية المضادة للحكومة الرومانية.
ولما نجحت سياسة بطليموس في القضاء على ثورات الموريين ومحاصرة ثورة تاكفاريناس في نوميديا، استقبله مجلس الشيوخ الروماني استقبالا حارا ، ووشحوه بصولجان الملك العاجي، وأعطوه سترة النصر البطولي، وتم الاعتراف به ملكا وصديقا وحليفا للرومان.. ولكن هذا النجاح الذي حققه بطليموس لم يعجب ابن خالته كاليگولا، فأضمر له الشر منذ البداية، وكان يتحين الفرصة المناسبة للانقضاض عليه قصد التخلص منه حسدا وكيدا. وفي الأخير، سيستدرجه كاليگولا الإمبراطور الروماني - الحاكم المستبد المعتوه الذي أرسل حصانه سفيرا – إلى حضور احتفالات رسمية بمدينة "ليون" الگالية التي كانت تجرى فيه أنواع من المصارعة الرومانية، فحضر بطليموس وهو في كامل زينته العسكرية ، لابسا زيه الأرجواني الملون باللون الإمبراطوري ، فأمر كاليگولا الذي كان يحسده كثيرا على هذا المجد الكبير أصحابه وجنوده باغتياله وإعدامه سنة 40 م. وبموت بطليموس، انقرضت الممالك الأمازيغية القديمة كلها [2]. وفي هذا التاريخ أيضا سيدخل المغرب في ظل الحكم الروماني المباشر، بعد أن حكم يوبا الثاني موريطانيا الطنجية تحت نظام الحماية ومراقبة الحكومة الرومانية والعمل بالنيابة عنها طوال الفترة بين25 ق.م و23ق.م. وفي هذه المدة بالذات، قام يوبا الثاني خلالها بتمهيد السبيل أمام الحكم الروماني.
وعلى الرغم من الخيانة التي كان يتصف بها بطليموس عندما حاول الإجهاز على مقاومة تاكفاريناس والقضاء على ثورات الموريين، إلا أنه استطاع أن يوفر لشعبه الأمازيغي استقرارا حضاريا كبيرا في جميع مجالات الحياة، وأن يحقق لمملكته الأمازيغية وحدة سياسية وأمنا زاهيا وانتعاشا ماليا واقتصاديا مشهودا أثار حسد الإمبراطور كاليگولا الذي دفعه للانتقام من بطليموس واغتياله.
وما كان لبطليموس - هذا السياسي الشهم - أن يحقق هذه النهضة الفكرية والعمرانية والاقتصادية، وهذه الوحدة الأمازيغية التي انصهرت فيها جميع القبائل البربرية والممالك المجاورة، لو لم يهادن الرومان مؤقتا ويستعمل جميع الطرق التكتيكية الذكية في التعامل مع حكامهم من خلال تطويق المقاومة الأمازيغية ومحاصرتها شكليا، وأن يعرف جيدا من أين تؤكل الكتف في إطار تطبيق سياسة الولاء والتحرر تارة ، والعمل بسياسة المسالمة والمقاومة تارة أخرى.
4- نتائج ثــــورة بطليموس:
بعد تخلص الرومان من الحاكم المغربي بطليموس، ثار الشعب الأمازيغي على هذا الغدر الروماني، واندلعت ثورات كثيرة فظهرت" ثورات الأمازيغ الموريين من سنة41 إلى 54م، وبلغت شرارتها جنوب نوميديا، ثم عاود هؤلاء الثورة فيما بين 81 و96م". ولكن أهم انتفاضة كانت تلك التي قادها المناضل المغربي الأمازيغي الغيور على وطنه وملكه ألا وهو القائد أيديمون.
ومن المعلوم، أن أيديمون كان وزير حكومة بطليموس ومن عتقائه الأوفياء، فقد قاد حملة عسكرية منظمة جمع فيها مجموعة من القوات الأمازيغية ورجال القبائل الشجعان، فشن كثيرا من الغارات التي أثرت سلبا على الوجود الروماني بالمغرب لمدة أربع سنوات، ستحول موريطانيا الطنجية إلى خراب كبير ودمار خطير . وقد تحصن الثوار الأمازيغيون" بجبال الأطلس وظلوا يهددون أوليلي ومنطقة النفوذ الروماني، وإذا كان هؤلاء قد استطاعوا إبعاد الثوار الأمازيغ فإنهم لم يقضوا على الثورة التي استمرت طيلة التواجد الروماني . هكذا اختفت الممالك الأمازيغية الواحدة تلو الأخرى، وطوال المدة التي بقيت فيها مستقلة، لم تفتأ روما تبذل الجهود لإجهاض نموها وكسر أية محاولة وحدوية، بتفتيت هذه الممالك وتأجيج نزاعاتها، ثم تطويقها بمعمريها وتجارها، لتأتي مرحلة تحرك جيوشها لضمها إلى إمبراطوريتها، ودخل بذلك جزء من بلاد الأمازيغ المرحلة الاستعمارية الرومانية". وإذا كان أيديمون قد جند قوات عدة لمقاومة الأعداء اللاتينيين الغزاة، فإن الرومان بدورهم جندوا" جيوشا هائلة بقيادة سويطونيوس ثم هازيديوس جيتا، وقد استطاع الأول أن يبلغ في زحفه على البربر ماوراء جبال الأطلس إلى نواحي تافيلالت، بينما تمكن الثاني من القضاء على آخر ثائر بربري وهو سابال سنة 42 أو44م. ومنذئذ، وضع الإمبراطور كلود بلاد المغرب تحت الحكم الروماني المباشر، وقسمها إلى قسمين: موريتانيا القيصرية وعاصمتها شرشال، وموريطانيا الطنجية وعاصمتها طنجة". هذا، ويشكل تقسيم:" مملكة موريطانيا إلى قسمين: موريطانيا الطنجية في الغرب، وموريطانيا القيصرية في الشرق... بداية دخول القسم الغربي من إفريقيا الشمالية تحت الحكم الروماني المباشر". وعلى أي حال، فإن موت بطليموس إعلان لنهاية نظام الحماية الذي كان معمولا به في عهد يوبا الثاني، لينتقل المغرب من نظام الحماية إلى الحكم المباشر والتدخل الروماني في المغرب. وفي 40 ميلادية، خضعت كل من نوميديا الغربية وموريطانيا للحكم الروماني المباشر ، وبذلك انتهى عهد الممالك الأمازيغية بصفة نهائية وجذرية. لكن هذا التدخل الروماني المباشر في نوميديا وموريطانيا ستسفر عنه ظهور مقاومات أمازيغية شرسة ستنتهي بدخول الوندال والبيزنطيين.
خاتمــــة:
نخرج من هذا العرض الوجيز بأن بطليموس كان أكثر ثورية وجرأة من أبيه عندما اتخذ المقاومة سبيلا لمجابهة الرومان بدلا من المقاربة الثقافية في التعامل مع الحكومة الرومانية لصالح رعاياه في موريطانيا الطنجية. وبذلك، كان بطليموس نموذجا للمقاومة الأمازيغية في مملكة تامازغا الذي خدم شعبه بوفاء وإخلاص ، وحارب الرومان بقوة وشراسة من أجل الدفاع عن الهوية الأمازيغية وتوحيد القبائل الإفريقية الليبية داخل نطاق مملكة أمازيغية موحدة. زد عن ذلك أن بطليموس حقق لشعبه الرخاء المالي والاقتصادي والنهضة الفكرية والعمرانية؛ مما دفع الإمبراطور الروماني كاليگولا إلى الغدر به والانتقام منه شر انتقام. ولكنه لم يدر أن إعدام بطليموس وقتله سيولد ثورات شعبية وانتفاضات أمازيغية ستطرد الرومان من نوميديا والمغرب لتحل محلهم قوات غازية عاتية ومتوحشة وهي القوات الوندالية والبيزنطية. وتتجلى مقاومة بطليموس للرومان في تقوية الجيش الأمازيغي، وتوحيد الممالك والقبائل البربرية لتنضوي تحت سلطته، وتحقيق الازدهار الاقتصادي والمالي، والدخول في سياسة المسالمة والتصدي للمقاومات الأمازيغية المضادة، ومهادنة الرومان من أجل توفير الأمن للشعب الأمازيغي حتى يستكمل قواه الذاتية المادية والمعنوية والبشرية، ويستعد للتحرر والاستقلال من قبضة الرومان. وما مقتل بطليموس في الحقيقة إلا إقبار لكل نواياه التطلعية وحد لأحلامه المستقبلية.
1- مــــن هو بطليمــــوس؟
ولد بطليموس الموريطاني المغربي أو بطولاميوس أو بطوليمايوس أو بطوليمي في السنة الأولى قبل الميلاد في وسط أرستقراطي يشهد له بالمجد والشرف والسيادة والسؤدد والثقافة وكثرة الاطلاع المعرفي والعلمي والفني والأدبي. ونشأ كذلك في أحضان أسرة ملكية رفيعة المكانة ذائعة الصيت مشهورة بعلمها وجاهها ووفائها للإمبراطورية الرومانية، وفي نفس الوقت وفية لشعبها الحر المناضل في سبيل تحرير البلاد من قبضة الرومان الأعداء. إن بطليموس كما هو معروف هو ابن العاهل الموري أغسطس المعروف بيوبا الثاني ملك موريتانيا الطنجية وملكة سيليني بنت كليوباترة السابعة ومارك أنطوان. وبذلك ، تجري في عروق بطليموس دماء أمازيغية إذا رجعنا بجذور السلالة الملكية إلى الجد الأكبر يوبا الأول ملك نوميديا الذي مات في مبارزة الرومان ، ودماء رومانية قيصرية إذا نظرنا إلى جهة الأم التي هي سليلة القياصرة وأباطرة الروم. ويعني هذا أن بطليموس تختلط فيه دماء الولاء والتحدي، كما تختلط فيه دماء الرضوخ والتحرر. بل هناك من يثبت أن بطليموس ورث جذورا متنوعة: أمازيغية ورومانية ويونانية ومصرية. كما كانت له صلات دموية وعائلية مع أباطرة الروم وخاصة كلود ونيرون وكاليگولا.
وقد تلقى بطليموس وأخته دروسييا تربية سلوكية رومانية وتنشئة شعبية أمازيغية. ولما بلغ بطليموس 19 سنة من عمره، لقبه أبوه يوبا الثاني بالعاهل أو الملك أو السلطان الشريك أو سماه بولي العهد إعدادا له لتولية الحكم من بعده. وبعد مرور أربع سنوات، تولى بطليموس عرش أبيه يوبا الثاني إثر وفاته في24 م. وتزوج بطليموس جونيا أورانيا من سلالة سورية إغريقية، وأنجب منها طفلة سماها دروسيا على غرار اسم أخته، والتي بدورها ستتزوج سنة52 م من أنطوان فيليكس والي الحكومة الرومانية بمدينة جودي. وقد حكم بطليموس موريطانيا الطنجية مابين33 ميلادية و40 ميلادية. وينبغي علينا ألا نخلط داخل أذهاننا بين بطليموس العالم اليوناني الذي اشتهر في علم الفلك والجغرافيا، وبطليموس الملك الموريطاني المغربي الأمازيغي الذي استهدف بناء مملكته حضاريا وتوحيد القبائل البربرية تحت سلطته السياسية.
وقد ۥخصص للملك بطليموس الموريطاني لوحة تمثالية منحوتة تمثل وجهه المشرق الوسيم على غرار لوحة وجه أبيه يوبا الثاني تقديرا له وتبجيلا ، وتوجد هذه اللوحة في متحف اللوڤر الباريسي بفرنسا.
2- إنجــــازات بطليموس:
انتهج بطليموس سياسة أبيه في بناء حضارة موريتانيا الطنجية مقتبسا مقومات الحضارة الرومانية والقرطاجنية واليونانية في تشكيل معالم الدولة الأمازيغية الجديدة: إداريا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا. واهتم كثيرا بتمدين المملكة وتعميرها وتقويتها عسكريا؛ وقد جعل أيديمون وهو أحد عتقائه قائدا عسكريا فوزيرا للدولة نظرا لوفائه وإخلاصه في تدبير دواليب الحكم وتسيير مرافق الإدارة، وكذلك لاتصافه بالشجاعة في قيادة المقاومة وتنظيم القوات الأمازيغية وتوجيهها أحسن توجيه في عملية التحصين وتوحيد القبائل الأمازيغية واستنفار قواتها البشرية والمادية. ومن جهة أخرى، فقد اهتم بطليموس شأن أبيه بالصناعة والتجارة والفلاحة والصيد البحري ونشر الثقافة بين الناس، ونتج عن هذا أن تحقق في عهده الازدهار الاقتصادي والانتعاش العمراني والنهضة الفكرية وتدفق الأموال؛ وهذا ماجعل الإمبراطور كاليگولا يطمع في خيرات المغرب وثرواته الغنية وينتظر الفرصة السانحة للسيطرة على حكم بطليموس لنهب ممتلكاته وأموال مملكته.
وعلى الرغم من بعض الثورات التي قام بها الموريون في عهده وفي عهد أبيه يوبا الثاني، فإن فترة بطليموس بعد سنة 24م وبعد قضاء الرومان على ثورة تاكفاريناس عرفت بالهدوء والرخاء الاقتصادي. يقول الباحث المغربي محمد بوكبوط في هذا الصدد:" بعد ذلك التزمت المصادر الصمت حيال أوضاع موريطانية، بحيث تبدو هادئة وملكها بطليموس ينعم بثمرات ذلك الاستقرار إلى غاية سنة 40 م، التي شهدت اغتيال الملك الأمازيغي من طرف القيصر كايوس كاليگولا، واضعا بذلك حدا للاستقلال الشكلي لموريطانيا التي قسمت إلى ولايتين رومانيتين: موريطانيا القيصرية وموريطانيا الطنجية [1]. ومن ثم، نسجل أن بطليموس كان ملكا محنكا في المجال السياسي، وذا تجربة كبيرة في مجال التدبير الاقتصادي والإداري وقيادة القوات العسكرية، والدليل على ذلك هو النمو الاقتصادي الذي حققه ميدانيا بفضل الاستقرار الاجتماعي، ناهيك عن القضاء النهائي على ثورة تاكفاريناس، واكتساب رضى الحكومة الرومانية، بله عن الظفر بحسن ولائها، والفوز بعطف القياصرة على سياسته ، فضلا عن حصوله على تقديرات مشجعة وتنويهات متميزة من مجلس الشيوخ اللاتيني.
3- تطـــور مقاومة بطليموس:
بعد وفاة يوبا الثاني سنة 23م ، خلفه ابنه بطليموس مباشرة، فسن سياسة التوحيد والاتساع وتطويق المقاومين الأمازيغ بعد مسالمتهم والحوار معهم. ويعني هذا أن بطليموس لما تفرد بالحكم في ظل الحماية الرومانية، قام بتوحيد مملكة موريطانيا الطنجية وجمع كل القبائل الأمازيغية الأخرى تحت سيادته وسلطة حكمه، وبدأ بعد ذلك في تقوية جيشه من أجل التوسع والامتداد لتوحيد الممالك الأمازيغية المجاورة الأخرى في إطار مملكة تامازغا القوية. لكن الحكومة الرومانية في عهد كاليگولا(25 قبل الميلاد- 33 بعد الميلاد) كانت تترقب تطلعاته التوسعية بحذر شديد، وترصد طموحاته في تمديد سلطانه على حساب جيرانه الأمازيغيين بنوع من الترقب والتوجس.
وفي نفس الوقت، انطلقت مقاومة شرسة في نوميديا قادها المقاوم الشاب تاكفاريناس لمدة سبع سنوات بعد أن فر من الجيش الروماني في سنة17 م، فبسط نفوذه على قبيلة مازولاميس ( منطقة مسيلة) التي كانت مواطنها بين قفصة والأوراس أي في نوميديا الشرقية. وقد كبد الجيش الروماني خسائر فادحة واستطاع أن يهدده داخل خط الليمس، إلا أن الحاكم الروماني بالشمال الإفريقي فوريوس هزمه. بيد أن تاكفاريناس عاد إلى ساحة القتال مرات عدة ، وكرر غاراته كرات متتالية لعدة سنوات إلا أن قتل بالجزائر بسبب خيانة أبناء جلدته.
وما يلاحظ على بطليموس في هذه الفترة أنه استطاع أن يساعد القوات الرومانية، وأن يحاصر المناضل تاكفاريناس، وأن يحد من مقاومته، وأن يطوق تحركاته العسكرية. وبالتالي، أن يقضي على كل الثورات الأمازيغية المضادة للحكومة الرومانية.
ولما نجحت سياسة بطليموس في القضاء على ثورات الموريين ومحاصرة ثورة تاكفاريناس في نوميديا، استقبله مجلس الشيوخ الروماني استقبالا حارا ، ووشحوه بصولجان الملك العاجي، وأعطوه سترة النصر البطولي، وتم الاعتراف به ملكا وصديقا وحليفا للرومان.. ولكن هذا النجاح الذي حققه بطليموس لم يعجب ابن خالته كاليگولا، فأضمر له الشر منذ البداية، وكان يتحين الفرصة المناسبة للانقضاض عليه قصد التخلص منه حسدا وكيدا. وفي الأخير، سيستدرجه كاليگولا الإمبراطور الروماني - الحاكم المستبد المعتوه الذي أرسل حصانه سفيرا – إلى حضور احتفالات رسمية بمدينة "ليون" الگالية التي كانت تجرى فيه أنواع من المصارعة الرومانية، فحضر بطليموس وهو في كامل زينته العسكرية ، لابسا زيه الأرجواني الملون باللون الإمبراطوري ، فأمر كاليگولا الذي كان يحسده كثيرا على هذا المجد الكبير أصحابه وجنوده باغتياله وإعدامه سنة 40 م. وبموت بطليموس، انقرضت الممالك الأمازيغية القديمة كلها [2]. وفي هذا التاريخ أيضا سيدخل المغرب في ظل الحكم الروماني المباشر، بعد أن حكم يوبا الثاني موريطانيا الطنجية تحت نظام الحماية ومراقبة الحكومة الرومانية والعمل بالنيابة عنها طوال الفترة بين25 ق.م و23ق.م. وفي هذه المدة بالذات، قام يوبا الثاني خلالها بتمهيد السبيل أمام الحكم الروماني.
وعلى الرغم من الخيانة التي كان يتصف بها بطليموس عندما حاول الإجهاز على مقاومة تاكفاريناس والقضاء على ثورات الموريين، إلا أنه استطاع أن يوفر لشعبه الأمازيغي استقرارا حضاريا كبيرا في جميع مجالات الحياة، وأن يحقق لمملكته الأمازيغية وحدة سياسية وأمنا زاهيا وانتعاشا ماليا واقتصاديا مشهودا أثار حسد الإمبراطور كاليگولا الذي دفعه للانتقام من بطليموس واغتياله.
وما كان لبطليموس - هذا السياسي الشهم - أن يحقق هذه النهضة الفكرية والعمرانية والاقتصادية، وهذه الوحدة الأمازيغية التي انصهرت فيها جميع القبائل البربرية والممالك المجاورة، لو لم يهادن الرومان مؤقتا ويستعمل جميع الطرق التكتيكية الذكية في التعامل مع حكامهم من خلال تطويق المقاومة الأمازيغية ومحاصرتها شكليا، وأن يعرف جيدا من أين تؤكل الكتف في إطار تطبيق سياسة الولاء والتحرر تارة ، والعمل بسياسة المسالمة والمقاومة تارة أخرى.
4- نتائج ثــــورة بطليموس:
بعد تخلص الرومان من الحاكم المغربي بطليموس، ثار الشعب الأمازيغي على هذا الغدر الروماني، واندلعت ثورات كثيرة فظهرت" ثورات الأمازيغ الموريين من سنة41 إلى 54م، وبلغت شرارتها جنوب نوميديا، ثم عاود هؤلاء الثورة فيما بين 81 و96م". ولكن أهم انتفاضة كانت تلك التي قادها المناضل المغربي الأمازيغي الغيور على وطنه وملكه ألا وهو القائد أيديمون.
ومن المعلوم، أن أيديمون كان وزير حكومة بطليموس ومن عتقائه الأوفياء، فقد قاد حملة عسكرية منظمة جمع فيها مجموعة من القوات الأمازيغية ورجال القبائل الشجعان، فشن كثيرا من الغارات التي أثرت سلبا على الوجود الروماني بالمغرب لمدة أربع سنوات، ستحول موريطانيا الطنجية إلى خراب كبير ودمار خطير . وقد تحصن الثوار الأمازيغيون" بجبال الأطلس وظلوا يهددون أوليلي ومنطقة النفوذ الروماني، وإذا كان هؤلاء قد استطاعوا إبعاد الثوار الأمازيغ فإنهم لم يقضوا على الثورة التي استمرت طيلة التواجد الروماني . هكذا اختفت الممالك الأمازيغية الواحدة تلو الأخرى، وطوال المدة التي بقيت فيها مستقلة، لم تفتأ روما تبذل الجهود لإجهاض نموها وكسر أية محاولة وحدوية، بتفتيت هذه الممالك وتأجيج نزاعاتها، ثم تطويقها بمعمريها وتجارها، لتأتي مرحلة تحرك جيوشها لضمها إلى إمبراطوريتها، ودخل بذلك جزء من بلاد الأمازيغ المرحلة الاستعمارية الرومانية". وإذا كان أيديمون قد جند قوات عدة لمقاومة الأعداء اللاتينيين الغزاة، فإن الرومان بدورهم جندوا" جيوشا هائلة بقيادة سويطونيوس ثم هازيديوس جيتا، وقد استطاع الأول أن يبلغ في زحفه على البربر ماوراء جبال الأطلس إلى نواحي تافيلالت، بينما تمكن الثاني من القضاء على آخر ثائر بربري وهو سابال سنة 42 أو44م. ومنذئذ، وضع الإمبراطور كلود بلاد المغرب تحت الحكم الروماني المباشر، وقسمها إلى قسمين: موريتانيا القيصرية وعاصمتها شرشال، وموريطانيا الطنجية وعاصمتها طنجة". هذا، ويشكل تقسيم:" مملكة موريطانيا إلى قسمين: موريطانيا الطنجية في الغرب، وموريطانيا القيصرية في الشرق... بداية دخول القسم الغربي من إفريقيا الشمالية تحت الحكم الروماني المباشر". وعلى أي حال، فإن موت بطليموس إعلان لنهاية نظام الحماية الذي كان معمولا به في عهد يوبا الثاني، لينتقل المغرب من نظام الحماية إلى الحكم المباشر والتدخل الروماني في المغرب. وفي 40 ميلادية، خضعت كل من نوميديا الغربية وموريطانيا للحكم الروماني المباشر ، وبذلك انتهى عهد الممالك الأمازيغية بصفة نهائية وجذرية. لكن هذا التدخل الروماني المباشر في نوميديا وموريطانيا ستسفر عنه ظهور مقاومات أمازيغية شرسة ستنتهي بدخول الوندال والبيزنطيين.
خاتمــــة:
نخرج من هذا العرض الوجيز بأن بطليموس كان أكثر ثورية وجرأة من أبيه عندما اتخذ المقاومة سبيلا لمجابهة الرومان بدلا من المقاربة الثقافية في التعامل مع الحكومة الرومانية لصالح رعاياه في موريطانيا الطنجية. وبذلك، كان بطليموس نموذجا للمقاومة الأمازيغية في مملكة تامازغا الذي خدم شعبه بوفاء وإخلاص ، وحارب الرومان بقوة وشراسة من أجل الدفاع عن الهوية الأمازيغية وتوحيد القبائل الإفريقية الليبية داخل نطاق مملكة أمازيغية موحدة. زد عن ذلك أن بطليموس حقق لشعبه الرخاء المالي والاقتصادي والنهضة الفكرية والعمرانية؛ مما دفع الإمبراطور الروماني كاليگولا إلى الغدر به والانتقام منه شر انتقام. ولكنه لم يدر أن إعدام بطليموس وقتله سيولد ثورات شعبية وانتفاضات أمازيغية ستطرد الرومان من نوميديا والمغرب لتحل محلهم قوات غازية عاتية ومتوحشة وهي القوات الوندالية والبيزنطية. وتتجلى مقاومة بطليموس للرومان في تقوية الجيش الأمازيغي، وتوحيد الممالك والقبائل البربرية لتنضوي تحت سلطته، وتحقيق الازدهار الاقتصادي والمالي، والدخول في سياسة المسالمة والتصدي للمقاومات الأمازيغية المضادة، ومهادنة الرومان من أجل توفير الأمن للشعب الأمازيغي حتى يستكمل قواه الذاتية المادية والمعنوية والبشرية، ويستعد للتحرر والاستقلال من قبضة الرومان. وما مقتل بطليموس في الحقيقة إلا إقبار لكل نواياه التطلعية وحد لأحلامه المستقبلية.
0 التعليقات: