الأمازيغية وخطباء المساجد، سوء الفهم الكبير
لا يعرف الكثيرون أن بداية المواجهة المباشرة بين الحركة الأمازيغية والحركة الإسلامية بالمغرب، تعود إلى سنة 1995 تحديدا، وهي السنة التي عرفت لأول مرة تطاول أحد خطباء المساجد بالدار البيضاء، وهو الدكتور محمد عز الدين توفيق، على موضوع الأمازيغية في يوم 16 ماي الذي اعتبره الخطيب مناسبة للتذكير بما سماه بـ"الظهير البربري"، حدث هذا عندما أغرت حماسة المنبر الخطيب المفوّه فنسي نفسه وموقعه وانبرى لتوزيع الإتهامات والأحكام المجانية يمينا وشمالا، ضدّ الحركة الجمعوية الأمازيغية، التي اعتبرها الخطيب إعادة إنتاج للظهير المذكور، معتبرا أن "الدعوة إلى تدريس الأمازيغية مخطط استعماري" (كذا !).
لم يكتف الفاعلون الأمازيغيون بإصدار بيان إدانة للخطيب المذكور، بل راسلوا وزير الأوقاف يطالبون بحقهم في الردّ من نفس المنبر الذي لم يعد منبر عبادة، بل تحول إلى منبر للسجال السياسي، واستمر النقاش محتدما إلى أن دخل على الخط مرشد جماعة العدل والإحسان سنة 1996 ليزيد الطين بلة بإصدار كتاب في الموضوع بعنوان "حوار مع صديق أمازيغي"، كرّر فيه نفس أطروحة الخطيب السابق، معتمدا بشكل مكثف نظرية المؤامرة، التي يتمّ فيها تعويض الوثيقة والمرجع والحجاج العقلاني بالمحاكمة والتحريض.
وقد لا حظنا آنذاك كيف بدأ النقاش الفكري والإيديولوجي والسياسي يتحول بالتدريج لصالح الحركة الأمازيغية، التي كانت من موقع دفاعي، تعتمد كل ترسانة الحجج والأدلة التي توفرها العلوم الإنسانية الحديثة ومرجعيات حقوق الإنسان العالمية، وقد لعب ظهور حزب العدالة والتنمية دورا كبيرا في اتجاه تفهم تيار التوحيد والإصلاح لملف الأمازيغية، وخاصة ما يتعلق بالتعليم والإعلام، وذلك بفضل القياديين الأمازيغ بالحزب، وكذا جهود نخبة شابة من الباحثين الإسلاميين الذين تجنبوا استراتيجية الدحض والتشهير واتجهوا إلى البت في الوثائق والمرجعيات والنبش في الدراسات والبحوث المنجزة، فكان تصحيح المسار ابتداء من سنة 2001 التي عرفت الخطوة الأولى في اتجاه الإعتراف الرسمي بالأمازيغية، في الوقت الذي انقطع فيه أهل العدل والإحسان بصفة نهائية عن مناقشة هذا الموضوع.
غير أن بعض خطباء الجمعة ظلوا بين الفينة والأخرى يعمدون إلى بعض المناوشات التي يكررون فيها نفس العبارات النمطية (اتهام الجمعيات الأمازيغية بالعمالة للخارج وبإحياء "الظهير البربري"، إيقاظ النعرة العرقية "الجاهلية"، الكيد للغة العربية، التعامل مع إسرائيل، اعتبار العرب مستعمرين للمغرب والدعوة إلى طردهم إلخ..)، وآخر من استعمل هذه العبارات النمطية هو السيد عبد الله نهاري من المغرب الشرقي، وإن كان هذا الأخير قد أخذ بعين الإعتبار ـ وله فضل ذلك ـ المعطى الجديد الذي لم يعرفه السابقون عليه من الخطباء، وهو أن الأمازيغية موضوع النقاش قد صارت لغة رسمية للبلاد، مما جعله يؤكد أولا على ضرورة النهوض بالأمازيغية باعتبارها لغة لجميع المغاربة، وعلى الحفاظ على الهوية الأمازيغية باعتبارها مكونا للهوية المغربية، وهو ما أصبح يقرّ به الدستور المغربي ولم يعد بحاجة إلى فتوى.
ولنا جملة ملاحظات مختصرة نسوقها على ما صرّح به السيد نهاري في ما يخصّ الحركة الأمازيغية المغربية، والذي لا يختلف كثيرا عما قال به من سبقوه من الخطباء والدعاة الدينيين:
1) أن الخطيب قد قام بما يشبه "حرث الجمل"، حيث دكّ ما حرثه مباشرة دون أن ينتبه إلى مكمن التناقض قي أقواله، فإذا كانت الأمازيغية اليوم تعتبر لغة لجميع المغاربة والهوية الأمازيغية جزءا لا يتجزأ من الهوية المغربية الجامعة، فإن ذلك يعود أساسا إلى جهود الجمعيات التي تبرأ منها ونعتها بنعوت سلبية، والتي ما فتئت تكرر منذ 45 سنة أن الأمازيغية "مسؤولية وطنية لجميع المغاربة"، وأن هوية المغرب لا يمكن ولا ينبغي اختزالها في "العروبة والإسلام"، وكان يتمّ الرد عليها باستعمال نظرية المؤامرة، وحرمانها من القاعات العمومية ومن حقها في التعبير والترافع.
2) أن الخلاف الحقيقي بين الخطيب والحركة الأمازيغية ليس هو أن هذه الأخيرة تهدّد وحدة البلاد، بل إنها لا تشاطر الخطيب في مرجعيته في التفكير والعمل، ولا تنظر إلى الأمازيغية من خلال وصاية المنظومة العربية للثقافة، بل تراها لغة و ثقافة تقوم بذاتها لا بغيرها، وهذا لا يعني البتة أنها هوية انفصال أو انعزال، لأن الأمازيغ الذين يمثلون الكيان المغربي عبر التاريخ لا يمكنهم أن ينفصلوا عن ذواتهم. ولفهم هذه الإشكالية لا بدّ من تغيير جوهري في معنى الوطنية المغربية (من الإخنزال إلى التعدد)، وفي قراءة تاريخ المغرب (من المنظور الرسمي إلى التاريخ الإجتماعي الحقيقي).
3) أن الخطيب السيد نهاري لم يقم على ما يبدو بالإطلاع على أية وثيقة أو مرجع من المراجع العلمية أو الأدبية للحركة الأمازيغية والتي تراكمت على مدى ما يقرب من نصف قرن، ليكون على بينة مما يقول، حيث يبدو مثل غيره من الذين سبقوه إلى هذا النوع من السجال، أنه يعتمد على مخزون ذاكرته من الأحكام المسبقة والمواقف والآراء التي يدخل معظمها ضمن "الحس المشترك"، فالخطيب يكون "عالما" عندما يتعلق الأمر بشؤون الدين، يتفقد كتب الحديث والتفسير والفقه وأصوله، لكنه في موضوع الأمازيغية يصبح سفسطائيا مجادلا بالمزاج والرجم بالغيب، بينما الأمازيغية ملف شائك معقد تراكمت وثائقه ومعطياته وتشعبت، وعلى الخطيب النزيه أن يتحرّى كل ذلك بأمانة قبل أن يُصدر رأيه في الموضوع. فالسؤال المطروح هو التالي: إذا كانت هذه الجمعيات الأمازيغية متآمرة على وحدة البلاد ولا شرعية لها ولا تمثل أحدا كما زعم السيد نهاري، فلماذا نجحت في تحقيق أكبر مكاسبها حتى الآن، وأصبحت شعاراتها توجهات يتضمنها الدستور والوثائق الرسمية للدولة، هل يمكن لمن لا مصداقية له أن ينجح في إقناع أغلبية القوى السياسية والمدنية والنقابية بعدالة قضيته؟
4) أعاد السيد نهاري تكرار لازمة "الفتنة العرقية" والتحذير منها، و هذا دليل على أنه لا يعرف الكثير عن الحركة الأمازيغية وأدبياتها، فهذه الحركة لا تقسم المغاربة إلى عرب وأمازيغ، بل تعتبر جميع المغاربة أمازيغ بحكم الأرض والتاريخ والتمازج الثقافي والعرقي، و لم يسبق لأي مكون من مكونات الحركة أن تحدث عن "عرق خالص" أو أصل من الأصول النقية، والغالب أن السيد نهاري قد وقع ضحية الفكرة السائدة في بعض الأوساط الشعبية، والتي تجاوزتها الحركة الأمازيغية بسبب عدم واقعيتها، حيث قامت الحركة عكس ذلك بإعلاء فكرة الأصل العرقي والتعبير عنها من خلال فكرة "الحقوق الثقافية واللغوية"، التي هي حقوق للشعب المغربي بكامله وليس لطائفة منه أو مجموعة عرقية معزولة. وإذا أراد السيد نهاري وغيره من الخطباء أن ينهوا عن النزعات العرقية فليس عليهم إلا تفحص الخطابات القائمة على شجرات الأنساب القرشية النقية والدماء الزكية التي لا يرمي أصحابها إلى أكثر من احتكار الامتيازات الإجتماعية والسياسية، مما يتنافى مع أبسط مبادئ المواطنة والمساواة. كما على الخطباء عدم السكوت عن ظاهرة احتقار المواطنين المغاربة من ذوي البشرة السوداء، سواء في الكتب المدرسية أو في التشكيلة الحكومية أو في القنوات التلفزية أو في منابر الخطابة بالمساجد. وقد كانت الحركة الأمازيغية وما زالت الطرف الوحيد الذي نبّه إلى نزعات الميز العنصري من هذا النوع.
5) كرّر السيد نهاري بدوره فكرة أن الأمازيغ قد "خدموا اللغة العربية"، وهي فكرة من العبث استعمالها ضدّ الأمازيغ، لأن المنطق السليم يقول إنّ الأمازيغ إذا كانوا قد خدموا العربية فعلى من يعتبر نفسه عربيا اليوم ألا يعترض على حقوقهم في لغتهم الأصلية، لأن خدمة الأمازيغ للعربية لا يعني أنهم قد تنكروا للغتهم، وقد ذكّر بذلك الدكتور سعد الدين العثماني عندما كتب على صفحات جريدة التجديد: "لقد خدم الأمازيغ العربية قرونا طويلة، وقد آن الأوان أن يخدم العرب بدورهم اللغة الأمازيغية".
6) حتى لا يبقى الخطباء في حالة شرود، وهم الذين لم تنتظر اللغة الأمازيغية فتاواهم لكي تصبح رسمية في الدستور، عليهم أن يتابعوا عن كثب ما يجري في بلدهم وأن يتفقدوا الوثائق والمراجع والأرقام والمعطيات الميدانية، وينزعوا عنهم جبّة التعالم في قضايا المجتمع، و يقبلوا على البحث والتنقيب بغرض المعرفة، ويتزودوا ببعض العلوم والمعارف الإنسانية الحديثة حتى يكونوا على بينة مما يقال ويكتب
0 التعليقات: